فصل: بَابُ إجَارَةِ الْفُسْطَاطِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ لَهُ فِي بَيْتِهِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ لَهُ فِي بَيْتِهِ عَمَلًا مُسَمًّى فَفَرَغَ الْأَجِيرُ مِنْ الْعَمَلِ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَمْ يَضَعْهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى فَسَدَ الْعَمَلُ، أَوْ هَلَكَ وَلَهُ الْأَجْرُ)؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ صَارَ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّ مَحْمِلَ الْعَمَلِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيْتِهِ وَالْبَيْتُ مَعَ مَا فِيهِ فِي يَدِ صَاحِبِ الْبَيْتِ فَكَمَا صَارَ مُسَلَّمًا تَقَرَّرَ الْأَجْرُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآجِرِ فِيمَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ؛ لِأَنَّ مَالَ صَاحِبِهِ هَلَكَ فِي يَدِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَخِيطُ لَهُ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ قَمِيصًا وَخَاطَ بَعْضَهُ، ثُمَّ سَرَقَ مِنْهُ الثَّوْبَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا خَاطَ فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْعَمَلِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ التَّسْلِيمُ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ عِنْدَ حُصُولِ كَمَالِ الْمَقْصُودِ فَلَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِيَخِيطَ فِي بَيْتِ الْأَجِيرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عَمَلُهُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ فَإِنَّ الثَّوْبَ فِي يَدِ الْأَجِيرِ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيْتِهِ وَلَا يُقَالُ قَدْ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِمِلْكِ صَاحِبِ الثَّوْبِ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْعَمَلِ بِمِلْكِهِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِيمَا اتَّصَلَ بِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الثَّوْبِ فِي يَدِهِ فَيَدُهُ لَا تَثْبُتُ عَلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ أَيْضًا وَخُرُوجُهُ مِنْ ضَمَانِ الْعَامِلِ وَتَعَذَّرَ الْأَجْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ الْيَدِ لَهُ عَلَى الْمُعَوِّلِ.
وَاسْتَشْهَدَ بِمَا قَالَ إنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَبْنِي لَهُ حَائِطًا فَبَنَى بَعْضَهُ، أَوْ كُلَّهُ، ثُمَّ انْهَدَمَ فَلَهُ أَجْرُ مَا بَنَى؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِ صَاحِبِ الْبِنَاءِ، وَكَذَلِكَ حَفْرُ الْبِئْرِ.
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَسْتَأْجِرُ الْخَبَّازَ لِيَخْبِزَ لَهُ فِي بَيْتِهِ دَقِيقًا مَعْلُومًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَخَبَزَهُ، ثُمَّ سَرَقَ فَلَهُ الْأَجْرُ تَامًّا، وَإِنْ سَرَقَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا عَمِلَ، وَإِنْ كَانَ يَخْبِزُ فِي بَيْتِ الْخَبَّازِ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ شَيْءٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سَرَقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ فَلَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، وَإِنْ احْتَرَقَ الْخُبْزُ فِي التَّنُّورِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ وَيَتَخَيَّرُ صَاحِبُ الْخُبْزِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَخْبُوزًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ دَقِيقًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْقَصَّارِ.
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ طَعَامًا إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ فَسَرَقَ مِنْهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا تَحَمَّلَ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هَهُنَا مَنَافِعُهُ لِإِحْدَاثِ وَصْفٍ فِي الْمَحَلِّ فَبِقَدْرِ مَا تَحَمَّلَ يَصِيرُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْوَصْفُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الْمَحَلِّ بِعَمَلِهِ وَثُبُوتُ الْيَدِ عَلَى الْوَصْفِ بِثُبُوتِهِ عَلَى الْمَوْصُوفِ فَمَا لَمْ تَثْبُتْ يَدُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى مَحَلِّ الْعَمَلِ لَا يَصِيرُ مُسَلِّمًا الْعَمَلَ فَلَا يَتَقَرَّرُ الْأَجْرُ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إذَا هَلَكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الْأَجْرَ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَوْ هَلَكَ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ كَالْحَمَّالِ وَالْخَيَّاطِ وَالْخَبَّازِ فِي بَيْتِ صَاحِبِ الْعَمَلِ فَإِنْ حَبَسَهُ وَهَلَكَ عِنْدَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي الْحَبْسِ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ.
وَالْعُمَّالُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ ضَامِنُونَ لِمَا جَنَتْ أَيْدِيهمْ مِثْلَ مَا يَضْمَنُونَ مَا عَمِلُوا فِي بُيُوتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ سَوَاءٌ عَمِلَ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ، أَوْ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَكُونُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ تَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالْعَمَلُ الْمَعِيبُ لَا يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِيَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا فِي بَيْتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ مَا جَنَتْ يَدُهُ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ يَوْمِهِ، وَأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ.
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ طَبَّاخًا يَصْنَعُ لَهُ طَعَامًا فِي وَلِيمَةٍ فَأَفْسَدَ الطَّعَامَ فَأَحْرَقَهُ وَلَمْ يُنْضِجْهُ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ، وَهَذَا مِنْ جِنَايَةِ يَدِهِ، وَلَوْ لَمْ يُفْسِدْ الطَّبَّاخُ، وَلَكِنَّ رَبَّ الدَّارِ اشْتَرَى رَاوِيَةً مِنْ مَاءٍ فَأَمَرَ صَاحِبَ الْبَعِيرِ فَأَدْخَلَهَا الدَّارَ فَسَاقَ الْبَعِيرَ فَعَطِبَ فَخَرَّ عَلَى الْقُدُورِ فَكَسَرَهَا فَأَفْسَدَ الطَّعَامَ فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْبَعِيرِ؛ لِأَنَّهُ سَاقَهَا بِأَمْرِ رَبِّ الدَّارِ وَفِعْلُهُ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ وَسَوْقُ الْإِنْسَانِ الدَّابَّةَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ.
وَلَا ضَمَانَ عَلَى الطَّبَّاخِ فِيمَا عَمِلَ مِنْ الطَّعَامِ؛ لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ بَلْ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَى صَاحِبِ الدَّارِ حُكْمًا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَعِيرُ سَقَطَ عَلَى ابْنِ رَبِّ الدَّارِ وَهُوَ صَبِيٌّ فَقَتَلَهُ، أَوْ عَلَى عَبْدِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّسَبُّبَ إذَا لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى أَحَدٍ، وَلَوْ أَدْخَلَ الطَّبَّاخُ النَّارَ لِيَطْبُخَ بِهَا فَوَقَعَتْ شَرَارَةٌ وَاحْتَرَقَتْ الدَّارُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُدْخِلَ النَّارَ وَيَعْمَلَ بِهَا فَعَمَلُهُ لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ فِيمَا احْتَرَقَ لِلسُّكَّانِ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ النَّارَ فِي مِلْكِهِ وَمَنْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِيهِ.
فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ غَيْرُهُ بِأَمْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ.

.بَابُ إجَارَةِ الْفُسْطَاطِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فُسْطَاطًا يَخْرُجُ بِهِ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَيَحُجُّ وَيَخْرُجُ مِنْ الْكُوفَةِ فِي هِلَالِ ذِي الْقَعْدَةِ فَهُوَ جَائِزٌ)؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَ عَيْنًا مُنْتَفَعًا بِهِ وَهُوَ مُعْتَادٌ اسْتِئْجَارُهُ وَالْفُسْطَاطُ مِنْ الْمَسَاكِنِ فَاسْتِئْجَارُهُ كَاسْتِئْجَارِ الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ الْخَيْمَةُ وَالْكَنِيسَةُ وَالرِّوَاقُ وَالسُّرَادِقُ وَالْمَحْمِلُ وَالْجُرُبُ وَالْجَوَالِقُ وَالْحِبَالُ وَالْقِرَبُ وَالْبُسُطُ فَذَلِكَ كُلُّهُ مُنْتَفَعٌ بِهِ مُعْتَادٌ اسْتِئْجَارُهُ فَإِنْ تَكَارَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِيَخْرُجَ بِهِ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَلَمْ يُسَمِّ مَتَى يَخْرُجُ بِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ حِينَ يَخْرُجُ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا فَرُبَّمَا تَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِيهِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِيهِ بِالْخُرُوجِ إلَى مَكَّةَ فَمِنْ بَيْنِ مُسْتَعْجِلٍ وَمُؤَخِّرٍ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ وَقْتُ الْخُرُوجِ لِلْحَجِّ مِنْ الْكُوفَةِ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ.
وَالْمُتَعَارَفُ كَالْمَشْرُوطِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْوَقْتُ الَّذِي تَخْرُجُ فِيهِ الْقَافِلَةُ مَعَ جَمَاعَةِ النَّاسِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْإِقْرَارِ، وَذَلِكَ الْوَقْتُ مَعْلُومٌ، وَإِنْ تَخَرَّقَ الْفُسْطَاطُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَلَا عُنْفٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ فِي يَدِهِ أَمَانَةٌ فَإِنَّ نَقِيضَهُ يُقَرِّرُ حَقَّ صَاحِبِهِ فِي الْأَجْرِ وَهُوَ مَأْذُونٌ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَتَخَرَّقُ مِنْهُ إذَا لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ، وَإِنْ ذَهَبَ بِهِ وَرَجَعَ فَقَالَ اسْتَغْنَيْت عَنْهُ فَلَمْ أَسْتَعْمِلْهُ فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي تَقَرُّرِ الْأَجْرِ عَلَيْهِ وَلَوْ انْقَطَعَتْ أَطْنَابُهُ وَانْكَسَرَ عَمُودُهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ نَصْبَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَجْرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَالْأَجْرُ لَا يَلْزَمُهُ بِدُونِهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَإِنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ فِي مِقْدَارِ مَا اسْتَوْفَى، وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَرَقَ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ أَسْتَعْمِلْهُ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ إلَّا مِقْدَارُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ.
وَلَوْ أَسْرَجَ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الْفُسْطَاطِ أَوْ فِي الْخَيْمَةِ حَتَّى اسْوَدَّ مِنْ الدُّخَانِ، أَوْ احْتَرَقَ أَوْ عَلَّقَ فِيهِ قِنْدِيلًا فَإِنْ كَانَ صَنَعَ كَمَا يَصْنَعُ النَّاسُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ تَعَدَّى فِيهِ، أَوْ اتَّخَذَهُ مَطْبَخًا، أَوْ أَوْقَدَ فِيهِ نَارًا حَتَّى صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَطْبَخِ مِنْ السَّوَادِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَفْسَدَ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَعَارَفِ.
فَإِذَا لَمْ يُجَاوِزْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ ضَامِنًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْفُسْطَاطَ مِنْ الْمَسَاكِنِ وَإِدْخَالُ السِّرَاجِ وَالْقِنْدِيلِ وَإِيقَادُ النَّارِ فِي الْمَسْكَنِ مُتَعَارَفٌ لَا بُدَّ لِلسَّاكِنِ مِنْهُ، وَلَكِنْ إذَا جَاوَزَ الْحَدَّ الْمُتَعَارَفَ فَهُوَ مُتَعَدِّي فِيمَا صَنَعَ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا أَفْسَدَ وَكَانَ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ إذَا كَانَ مَا بَقِيَ مِنْهُ شَيْئًا يُنَافِي السُّكْنَى فِيهِ فَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ مُنْذُ يَوْمِ لَزِمَهُ الضَّمَانُ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ، وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ أَنْ لَا يُوقِدَ فِيهِ وَلَا يُسْرِجَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوقِدَ فِيهِ وَلَا يُسْرِجَ؛ لِأَنَّ هَذَا أَضَرُّ مِنْ السُّكْنَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ إسْرَاجٍ، وَقَدْ اسْتَثْنَاهُ صَاحِبُهُ بِالشَّرْطِ وَالتَّقْيِيدُ مَتَى كَانَ مُفِيدًا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ جَاوَزَ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ بِاعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ تَقَرُّرَ الْأَجْرِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَأْجِرِ لِلدَّابَّةِ إلَى مَكَان إذَا جَاوَزَ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ قُبَّةً تُرْكِيَّةً بِالْكُوفَةِ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ لِيَسْتَوْقِدَ فِيهَا وَيَبِيتَ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ احْتَرَقَتْ مِنْ الْوُقُودِ؛ لِأَنَّ الْإِيقَادَ فِيهَا مُعْتَادٌ فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَدِّيًا بِالْإِيقَادِ فِيهَا فَإِنْ بَاتَ فِيهَا عَبْدُهُ، أَوْ ضَيْفُهُ فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَسَاكِنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ ضَيْفَهُ وَعَبْدَهُ فِيمَا سَكَنَ فِيهِ هُوَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْقُبَّةِ بِكَثْرَةِ مَنْ يَسْكُنُهَا.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فُسْطَاطًا يَخْرُجُ بِهِ إلَى مَكَّةَ فَقَعَدَ وَأَعْطَاهُ أَخَاهُ فَحَجَّ وَنَصَبَ وَاسْتَظَلَّ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ؛ لِأَنَّ الْفُسْطَاطَ مِنْ الْمَسَاكِنِ، وَفِي الْمَسْكَنِ لَا يَتَعَيَّنُ سُكْنَاهُ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ وَسُكْنَى غَيْرِهِ فِي الضَّرَرِ عَلَى الْفُسْطَاطِ سَوَاءٌ فَهُوَ كَتَسْلِيمِ الْبُيُوتِ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَ الْفُسْطَاطَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، ثُمَّ أَسْكَنَ فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَضْمَنْ فَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا يَخْدُمُهُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَأَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِخِدْمَةٍ لَمْ يَضْمَنْ وَتَفَاوُتُ النَّاسِ فِي الِاسْتِخْدَامِ وَالْأَضْرَارِ عَلَى الْغُلَامِ أَبْيَنُ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي السُّكْنَى فِي الْفُسْطَاطِ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ هُنَاكَ الْمُسْتَأْجِرُ لِلِاسْتِخْدَامِ فَهَذَا أَوْلَى.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفُسْطَاطَ يُحَوَّلُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَالضَّرَرُ عَلَيْهِ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ مَوَاضِعِ النَّصْبِ فَإِنْ نَصَبَهُ فِي مَهَبِّ الرِّيحِ يَخْرِقُهُ وَنَصْبُهُ مِنْ مَوْضِعِ النَّدْوَةِ وَالنَّزِّ يُفْسِدُهُ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا مِمَّا يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ وَبِحَبْسِهِ يَخْتَلِفُ الضَّرَرُ فَكَانَ التَّعْيِينُ مُعْتَبَرًا بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ اسْتَأْجَرَهَا لِيَرْكَبَهَا، أَوْ الثَّوْبِ يَسْتَأْجِرُهُ لِيَلْبَسَهُ هُوَ.
فَإِذَا دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ صَارَ مُخَالِفًا ضَامِنًا وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَسْكَنِ فَإِنَّهُ لَا يُحَوَّلُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ.
فَإِذَا كَلَّفَهُ فَوْقَ ذَلِكَ امْتَنَعَ الْعَبْدُ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الَّذِي يَسْتَخْدِمُهُ، أَوْ غَيْرُهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّعْيِينِ هُنَاكَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَخْرَجَ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَخْتَارُ مَوْضِعَ النَّصْبِ لِلْفُسْطَاطِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ فَسُكْنَاهُ وَسُكْنَى غَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ.
فَأَمَّا إذَا دَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيَخْرُجَ بِهِ فَاخْتِيَارُ مَوْضِعِ نَصْبِ الْفُسْطَاطِ لَا يَكُونُ بِرَأْيِهِ بَلْ يَكُونُ بِرَأْيِ الَّذِي خَرَجَ بِهِ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُوجِبِ الْعَقْدِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ عِنْدَ الِاسْتِئْجَارِ مَنْ يَخْرُجُ بِهِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا لَوْ لَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَلْبَسُ الثَّوْبَ عِنْدَ الِاسْتِئْجَارِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَقْدُ جَائِزٌ كَمَا فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الدَّارِ وَلَوْ انْقَطَعَتْ أَطْنَابُ الْفُسْطَاطِ كُلُّهَا فَصَنَعَهَا الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ نَصَبَ الْفُسْطَاطَ حَتَّى رَجَعَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ كُلُّهُ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةُ الْفُسْطَاطِ لَا مَنْفَعَةُ الْأَطْنَابِ.
فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِأَطْنَابِ نَفْسِهِ لَزِمَهُ الْأَجْرُ كَمَا فِي اسْتِئْجَارِ الرَّحَا إذَا انْقَطَعَ الْمَاءُ فَطَحَنَ الْمُسْتَأْجِرُ بِجَمَلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ، ثُمَّ يُمْسِكُ أَطْنَابَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ فَيُمْسِكُهُ إذَا رَدَّ الْفُسْطَاطَ.
وَلَوْ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ الْأَطْنَابُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِمِلْكِ صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ وَلَا يُعْتَبَرُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمَّا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ، وَكَذَلِكَ لَوْ انْكَسَرَ عَمُودُ الْفُسْطَاطِ.
فَأَمَّا إذَا انْكَسَرَتْ أَوْتَادُهُ فَلَمْ يَضُرَّ بِهِ حَتَّى رَجَعَ كَانَ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ كَامِلًا، وَلَيْسَ الْأَوْتَادُ مِثْلُ الْأَطْنَابِ وَالْعَمُودِ؛ لِأَنَّ الْأَوْتَادَ مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْأَطْنَابُ وَالْعَمُودُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ بَنَى هَذَا الْجَوَابَ عَلَى عُرْفِ دِيَارِهِمْ.
فَأَمَّا فِي عُرْفِ دِيَارِنَا الْأَوْتَادُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ مِنْ الْأَوْتَادِ مَا يَتَيَسَّرُ وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَلَا يَتَكَلَّفُ بِحَمْلِ مِثْلِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَهَذَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَمِنْهُ مَا يَكُونُ مُتَّخَذًا مِنْ حَدِيدٍ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَمِثْلُهُ يَكُونُ عَلَى صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ كَالْعَمُودِ فَمُرَادُهُ مِمَّا قَالَ الْأَوْتَادُ الَّتِي تُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَبِانْكِسَارِهَا لَا يَزُولُ تَمَكُّنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْعَمُودِ وَالْأَطْنَابِ.
وَإِنْ تَكَارَى فُسْطَاطًا يُخْرِجُهُ إلَى مَكَّةَ فَخَلَّفَهُ بِالْكُوفَةِ حَتَّى رَجَعَ فَهُوَ ضَامِنٌ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَإِنَّ صَاحِبَهُ إنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْإِمْسَاكِ فِي الطَّرِيقِ لِيُقَرِّرَ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ وَيُفَوِّتَ عَلَيْهِ هَذَا الْمَقْصُودَ إذَا أَمْسَكَهُ بِالْكُوفَةِ وَإِمْسَاكُ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ مُوجِبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَا تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ نَصْبُهَا وَسُكْنَاهَا فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إذَا خَلَّفَهَا بِالْكُوفَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ مَا أَخْرَجَهُ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ التَّمَكُّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَنْكَرَ قَبْضَ الْفُسْطَاطِ أَصْلًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ وَلَمْ يَدْفَعْ الْفُسْطَاطَ إلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ وَدَفَعَ الْفُسْطَاطَ إلَى غُلَامِهِ فَقَالَ ادْفَعْهُ إلَى صَاحِبِهِ فَلَمْ يَدْفَعْ حَتَّى رَجَعَ الْمَوْلَى فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَى صَاحِبِهِ وَكَوْنُهُ فِي يَدِ غُلَامِهِ وَمَا لَوْ خَلَّفَهُ فِي بَيْتِهِ بِالْكُوفَةِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ إلَى آخَرَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ فَلَمْ يَفْعَلْهُ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ بِالْإِمْسَاكِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَبِالتَّسْلِيمِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ أَيْضًا، وَلَوْ حَمَلَهُ الرَّجُلُ إلَى صَاحِبِ الْفُسْطَاطِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ بَرِئَ الْمُسْتَأْجِرُ وَالرَّجُلُ مِنْ الضَّمَانِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ تَمَكَّنَ مِنْ فُسْطَاطِهِ حِينَ رَدَّ عَلَيْهِ وَفِعْلُ مَأْمُورِ الْمُسْتَأْجِرِ كَفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ بِنَفْسِهِ وَلَوْ رَدَّهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا عُذْرٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةٍ فِي إخْرَاجِ الْفُسْطَاطِ وَلَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ تِلْكَ الْمُؤْنَةَ.
فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهُ ثَانِيَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ قَبُولِهِ.
وَلَوْ هَلَكَ الْفُسْطَاطُ عِنْدَ هَذَا الْآخَرِ قَبْلَ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى صَاحِبِهِ فَلِصَاحِبِ الْفُسْطَاطِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ غَاصِبٌ فَإِنْ ضَمِنَ الْوَكِيلُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ، وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَلَيْهِ رَجَعَ الْوَكِيلُ بِهِ أَيْضًا، وَلِأَنَّ يَدَ الْوَكِيلِ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَاكُهُ فِي يَدِ الْوَكِيلِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ.
وَإِنْ ذَهَبَ بِالْفُسْطَاطِ إلَى مَكَّةَ وَرَجَعَ بِهِ فَقَالَ الْمُؤَاجِرُ لِلْمُسْتَأْجِرِ احْمِلْهُ إلَى مَنْزِلِي فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ، وَلَكِنَّهُ عَلَى رَبِّ الْمَتَاعِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْفَعَةَ النَّقْلِ حَصَلَ لِرَبِّ الْمَتَاعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بِالْفُسْطَاطِ وَخَلَّفَهُ بِالْكُوفَةِ فَضَمِنَهُ وَسَقَطَ عَنْهُ الْأَجْرُ فَالْحُمُولَةُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ وَهُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِالرَّدِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَرَّأَ نَفْسَهُ عَنْ الضَّمَانِ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى فَقَبَضَهَا وَذَهَبَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ فَإِنْ حَبَسَهَا بِالْكُوفَةِ عَلَى قَدْرِ مَا يَحْبِسُهَا النَّاسُ إلَى أَنْ يَرْتَحِلَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَبَسَهَا مِمَّا لَا يَحْبِسُ النَّاسُ مِثْلَهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَهَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهَا فِي الْإِمْسَاكِ، وَفِي هَذَا الْخِلَافِ ضَرَرٌ عَلَى صَاحِبِهَا فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ لَا يَتَقَرَّرُ بِإِمْسَاكِهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا إلَّا أَنَّ الْمِقْدَارَ الْمُتَعَارَفَ مِنْ الْإِمْسَاكِ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِالْعُرْفِ فَيُجْعَلُ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ.
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلَانِ فُسْطَاطًا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنِّي أُرِيدُ أَنْ آتِي بِالْبَصْرَةِ.
وَقَالَ الْآخَرُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَرْجِعَ إلَى الْكُوفَةِ وَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ الْفُسْطَاطَ مِنْ صَاحِبِهِ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَدْفَعَ الْكُوفِيُّ إلَى الْبَصْرِيِّ، أَوْ الْبَصْرِيُّ إلَى الْكُوفِيِّ، أَوْ يَخْتَصِمَا فِيهِ إلَى الْقَاضِي بِمَكَّةَ.
فَأَمَّا إذَا دَفَعَهُ الْكُوفِيُّ إلَى الْبَصْرِيِّ فَذَهَبَ بِهِ إلَى الْبَصْرَةِ وَاسْتَعْمَلَهُ فَلِرَبِّ الْفُسْطَاطِ أَنْ يُضَمِّنَ الْبَصْرِيَّ قِيمَتَهُ إنْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ مُسْتَعْمِلٌ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَنْصِبْهُ فَهُوَ بِالْإِمْسَاكِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ صَاحِبُهُ فِيهِ يَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ إنْ هَلَكَ وَعَلَيْهِمَا حِصَّةُ الذَّهَابِ مِنْ الْأَجْرِ وَلَا أَجْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرُّجُوعِ أَمَّا الْبَصْرِيُّ فَلِأَنَّهُ مَا رَجَعَ مِنْ الْكُوفَةِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ وَأَمَّا الْكُوفِيُّ فَلِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ حِينَ ذَهَبَ الْبَصْرِيُّ بِالْفُسْطَاطِ، وَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْكُوفِيَّ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إلَى الْبَصْرَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ، وَقَدْ تَعَدَّى بِالتَّسْلِيمِ إلَى صَاحِبِهِ لِيُمْسِكَهُ عَلَى خِلَافِ مَا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ وَيُضَمِّنَ الْبَصْرِيَّ نِصْفَ قِيمَتِهِ.
وَإِنْ قَالَ الْكُوفِيُّ لَمْ آمُرْهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إلَى الْبَصْرَةِ، وَلَكِنِّي دَفَعْته إلَيْهِ لِيُمْسِكَهُ حَتَّى يَرْتَحِلَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْفُسْطَاطَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْتَأْجَرِينَ أَنْ يَتْرُكَهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَا يَكُونُ تَسْلِيمُهُ إلَى صَاحِبِهِ لِيُمْسِكَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَنَاوَلَ الْإِذْنَ مُوجِبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَصَاحِبُ الْفُسْطَاطِ يَدَّعِي ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعَهُ الْبَصْرِيُّ إلَى الْكُوفِيِّ فَرَجَعَ بِهِ إلَى الْكُوفَةِ فَالْكِرَاءُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا عَلَى الْبَصْرِيِّ نِصْفُهُ وَعَلَى الْكُوفِيِّ نِصْفُهُ؛ لِأَنَّ الْكُوفِيَّ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ، وَفِي نَصِيبِ الْبَصْرِيِّ بِتَسْلِيطِهِ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ.
وَذَلِكَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ فَيَجِبُ الْكِرَاءُ عَلَيْهِمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ هَلَكَ قِيلَ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْبَصْرِيُّ ضَامِنًا وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ فِي الرُّجُوعِ كَمَا لَوْ دَفَعَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ هُنَا قَدْ رَضِيَ بِرَأْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النَّصْبِ وَاخْتِيَارِ الْمَوْضِعِ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَصَاحِبُ الْفُسْطَاطِ هُنَاكَ لَمْ يَرْضَ بِرَأْيِهِ فِي اخْتِيَارِ مَوْضِعِ النَّصْبِ، وَإِنْ غَصَبَهُ الْكُوفِيُّ فَعَلَى الْكُوفِيِّ حِصَّتُهُ مِنْ الْأَجْرِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَعَلَى الْبَصْرِيِّ أَجْرُهُ ذَاهِبًا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَجْرٌ فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ كَانَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حِينَ ذَهَبَ مِنْ طَرِيقِ الْبَصْرَةِ، وَيَكُونُ الْكُوفِيُّ ضَامِنًا لِنِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ هَلَكَ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لِلنِّصْفِ مِنْ الْبَصْرِيِّ فَيَكُونُ ضَامِنًا.
وَإِنْ ارْتَفَعَا إلَى الْقَاضِي بِمَكَّةَ فَلِلْقَاضِي فِي ذَلِكَ رَأْيٌ فَإِنْ شَاءَ لَمْ يَنْظُرْ فِيمَا يَقُولَانِ حَتَّى يُقِيمَا عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ غَائِبٌ وَهُمَا يَدَّعِيَانِ عَلَى الْقَاضِي وُجُوبَ النَّظَرِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ فِي مَالِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى ذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْرَفْ سَبَبُهُ فَإِنْ فَعَلَ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَجِدَا بَيِّنَةً فَدَفَعَهُ الْبَصْرِيُّ إلَى الْكُوفِيِّ فَهُوَ عَلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ الَّذِي قُلْنَا إذَا لَمْ يَرْتَفِعَا إلَى الْقَاضِي.
وَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ عَلَى مَا ادَّعَيَا قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُمَا أَثْبَتَا سَبَبَ وُجُوبِ وِلَايَتِهِ فِي هَذَا الْمَالِ وَوُجُوبُ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ وَهَذِهِ بَيِّنَةٌ تَكْشِفُ الْحَالَ فَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ الْخَصْمِ أَوْ الْقَاضِي كَأَنَّهُ الْخَصْمُ فِي مُوجِبِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْبَصْرِيُّ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنْ الرَّجْعَةِ إلَى الْبَصْرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْعُذْرَ الَّذِي بِهِ يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ فِي نَصِيبِهِ، وَذَلِكَ شَيْءٌ فِي ضَمِيرِهِ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ شَاءَ نَظَرَ فِي حَالِهِمَا مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ احْتِيَاطًا فِي حَقِّ الْغَائِبِ.
وَإِذَا حَلَفَ الْبَصْرِيُّ فَالْقَاضِي يُخْرِجُ الْفُسْطَاطَ مِنْ يَدِهِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَ مِنْ النَّظَرِ لِلْغَائِبِ تَرْكُ الْفُسْطَاطِ فِي يَدِهِ لِيَذْهَبَ بِهِ إلَى الْبَصْرَةِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَاجِرُ نَصِيبَهُ مِنْ كُوفِيٍّ مَعَ الْكُوفِيِّ الْأَوَّلِ لِيَتَوَصَّلَ صَاحِبُ الْفُسْطَاطِ إلَى غَيْرِ مِلْكِهِ وَيَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ الْكِرَاءُ بِجَمِيعِ الْفُسْطَاطِ فِي الرُّجُوعِ، وَإِنْ أَرَادَ الْكُوفِيُّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ نَصِيبَ الْبَصْرِيِّ فَهُوَ أَوْلَى الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْفُسْطَاطِ كَانَ رَاضِيًا بِكَوْنِ الْفُسْطَاطِ فِي يَدِهِ، وَلِأَنَّ إجَارَتَهُ مِنْهُ تَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ إجَارَةُ الْمُشَاعِ مِنْ الشَّرِيكِ.
وَذَلِكَ جَائِزٌ وَفِعْلُ الْقَاضِي فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لِلْغَائِبِ كَفِعْلِ الْغَائِبِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ فِيهِ حِينَئِذٍ يُؤَاجِرُهُ مِنْ كُوفِيٍّ آخَرُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ إجَارَةَ الْمُشَاعِ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ فَهَذَا فَصْلٌ مُجْتَهَدٌ فِيهِ.
فَإِذَا أَمْضَاهُ الْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَأْجِرُهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَدْفَعُ الْفُسْطَاطَ إلَى الْكُوفِيِّ.
وَقَالَ نِصْفُهُ مَعَك بِالْإِجَارَةِ الْأُولَى وَنِصْفُهُ مَعَك وَدِيعَةً حَتَّى يَبْلُغَ صَاحِبُهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى النَّظَرِ لِلْغَائِبِ بِاتِّصَالِ عَيْنِ مِلْكِهِ إلَيْهِ وَعَلَى الْكُوفِيِّ نِصْفُ الْأَجْرِ فِي الرُّجُوعِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَالشُّيُوعُ طَارِئٌ فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْإِجَارَةِ وَلَا أَجْرَ عَلَى الْبَصْرِيِّ فِي الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فُسِخَ الْعَقْدُ بِعُذْرٍ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهُ إلَى الْقَاضِي كَتَسْلِيمِهِ إلَى صَاحِبِهِ فَالْقَاضِي نَائِبٌ عَنْهُ فِيمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ.
وَإِنْ تَكَارَى فُسْطَاطًا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَخَرَجَ إلَى مَكَّةَ فَخَلَّفَهُ بِمَكَّةَ وَرَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ فَعَلَيْهِ الْكِرَاءُ ذَاهِبًا وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ الْفُسْطَاطِ يَوْمَ خَلَّفَهُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي رَضِيَ صَاحِبُهُ بِتَرْكِهِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصِمَا حَتَّى حَجَّ مِنْ قَابِلٍ فَرَجَعَ بِالْفُسْطَاطِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِي الرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ فِي الْعَامِ الْمَاضِي، وَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ غَاصِبًا ضَامِنًا فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي الْعَامِ الثَّانِي وَكُلُّ مَنْ اسْتَأْجَرَ فُسْطَاطًا، أَوْ مَتَاعًا، أَوْ حَيَوَانًا إذَا فَسَدَ ذَلِكَ حَتَّى لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ غَصَبَهُ غَاصِبٌ فَلَا أَجْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مُنْذُ يَوْمِ كَانَ ذَلِكَ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مَا قَبْلَهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا اخْتَصَمَا يَوْمَ اخْتَصَمَا وَهُوَ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ الْفَسَادِ، أَوْ الْغَصْبِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فِي الْحَالِ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِيمَا مَضَى وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّهُ بِبَيِّنَتِهِ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَنْفِي بِبَيِّنَتِهِ مَا يُثْبِتُهُ الْآخَرُ مِنْ الْأَجْرِ.
رَجُلٌ تَكَارَى دَابَّتَيْنِ مِنْ رَجُلٍ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِيَحْمِلَ عَلَيْهِمَا عِشْرِينَ مَخْتُومًا فَحَمَلَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ فَإِنَّمَا يُقْسَمُ الْأَجْرُ عَلَى أَجْرِ مِثْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَذَلِكَ لِصَاحِبِهَا؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ دَابَّتَيْنِ، وَلَوْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ عَيْنِهِمَا بِأَنْ يَتْبَعَا وَجَبَ قِيمَتُهُ عَلَى قِيمَتِهِمَا.
فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَتِهَا وَقِيمَةُ الْمَنْفَعَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ؛ فَلِهَذَا يُقْسَمُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا حَمَلَ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ (أَلَا تَرَى) أَنَّهُ لَوْ سَاقَهُمَا وَلَمْ يَحْمِلْ عَلَيْهِمَا شَيْئًا وَجَبَ الْأَجْرُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.